فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} جوز فيه ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون مستأنفًا.
الثاني: أن يكون حالًا من الضمير المستتر في: {بِسْمِ اللَّهِ} أي جريانها استقر: {بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41] حال كونها جارية.
الثالث: أنه حال من شيء محذوف دل عليه السياق أي فركبوا فيها جارية، والفاء المقدرة للعطف، و: {بِهِمُ} متعلق بتجري أو بمحذوف أي ملتبسة والمضارع لحكاية الحال الماضية ولا معنى للحالية من الضمير المستتر في الحال الأولى كما لا يخفى، والموج ما ارتفع من الماء عند اضطرابه، واحده موجة و: {كالجبال} في موضع الصفة لموج أي في موج مرتفع متفاوت في الارتفاع متراكم، قيل: إنها جرت بهم في موج كذلك وقد بقي منها فوق الماء ستة أذرع، واستشكل هذا الجريان مع ما روي أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وأن السفينة كانت تجري في داخله كالسمك، وأجيب بأن الرواية مما لا صحة لها ويكاد العقل يأبى ذلك.
نعم أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن عساكر وعبد بن حميد من طريق مجاهد عن عبيد بن عمير قال: إن الماء علا رأس كل جبل خمسة عشر ذراعًا على أنه لو سلم صحة ما ذكر فهذا الجريان كان في ابتداء الأمر قبل أن يتفاقم الخطب كما يدل عليه قوله سبحانه: {ونادى نُوحٌ ابنه} إلخ فإن ذلك إنما يتصور قبل أن تنقطع العلاقة بين السفينة والبر إذ حينئذٍ يمكن جريان ما جرى بين نوح عليه السلام وبين ابنه من المفاوضة والاستدعاء إلى السفينة، والجواب بالاعتصام بالجبل.
وقال بعض المحققين: إن هذا النداء إنما كان قبل الركوب في السفينة والواو لا تدل على الترتيب، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ابنها على أن ضمير التأنيث لامرأته، وفي إضافته إليها إشعار بأنه ربيبه لأن الإضافة إلى الأم مع ذكر الأب خلاف الظاهر، وإن جوزوه، ووجه بأنه نسب إليها لكونه كافرًا مثلها، وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله سبحانه: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن الله تعالى قد طهر الأنبياء عليهم السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بأصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين، ونسبة هذا القول إلى الحسن ومجاهد كما زعم الطبرسي كذب صريح، وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهم: {ابنه} بهاء مفتوحة دون ألف اكتفاءًا بالألف عنها وهو لغة كما قال ابن عطية ومن ذلك قوله:
أما تقود بها شاة فتأكلها ** أو أن تبيعه في بعض الأراكيب

قيل: وهو ضعيف في العربية حتى خصه بعضهم بالضرورة والضمير للأم أيضًا، وقرأ ابن عباس ابنه بسكون الهاء، وهي على ما قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي لغة أزد فإنهم يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قوله:
ونضواي مشتاقان له أرقان

وقيل: إنها لغة لبني كلاب وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشد:
وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ** إلا لأن عيونه سيل واديها

وقرأ السدي ابناه بألف وهاء سكت، وخرج ذلك على الندبة، واستشكل بأن النحاة صرحوا بأن حرف النداء لا يحذف في الندبة، وأجيب بأن هذا حكاية، والذي منعوه في الندبة نفسها لا في حكايتها، وعن ابن عطية أبناه بفتح همزة القطع التي للنداء، وفيه أنه لا ينادي المندوب بالهمزة، وأن الرواية بالوصل فيها والنداء بالهمزة لم يقع في القرآن، ويبعد القول بالندبة أنها لا تلائم الاستدعاء إلى السفينة بعد كما لا يخفى ولو قيل: إن ابناه على هذه القراءة مفعول نادى أيضًا كما في غيرها من القراءات، والألف للإشباع والهاء الساكنة هاء الضمير في بعض اللغات لم يكن هناك محذور من جهة المعنى وهو ظاهر، نعم يتوقف القول بذلك على السماع في مثله؛ ومتى ثبت تعين عندي تخريج القراءة إن صحت عليه، وقرأ الجمهور: {ابنه} بالإضافة إلى ضمير نوح، ووصلوا بالهاء واوًا وتوصل في الفصيح، وتنوين: {نُوحٌ} مكسور عند الجمهور دفعًا لالتقاء الساكنين، وقرأ وكيع بضمه اتباعًا لحركة الإعراب.
وقال أبو حاتم: هي لغة سوء لا تعرف: {وَكَانَ في مَعْزِلٍ} أي مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه، والمراد بعده عنهم إما حسًا أو معنى، وحاصله المخالفة لهم في الدين فمعزل بالكسر اسم مكان العزلة، وهي إما حقيقية أو مجازية، وقد يكون اسم زمان، وإذا فتح كان مصدرًا، وقيل: المراد كان في معزل عن الكفار قد انفرد عنهم، وظن نوح عليه السلام أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة، وقيل: إنما ناداه لأنه كان ينافقه فظن أنه مؤمن، واختاره كثير من المحققين كالماتريدي وغيره، وقيل: كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه السلام ظن أنه عند مشاهدة تلك الأهوال وبلوغ السيل الزبي ينزجر عما كان عليه ويقبل الإيمان، وقيل: لم يجزم بدخوله في الاستثناء لما أنه كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على أن ناداه: {يا بَنِى} بفتح الياء التي هي لام الكلمة اجتزاءًا بالفتحة عن الألف المبدلة من ياء الإضافة في قوله يا بنيا، وقيل: إنها سقطت لالتقائها ساكنة مع الراء الساكنة بعدها، ويؤيد الأول أنه قرئ كذلك حيث لا ساكن بعد.
ومن الناس من قال: فيه ضعف على ما حكاه يونس من ضعف يا أب ويا أم بحذف الألف والاجتزاء عنها بالفتحة.
وقرأ الجمهور بالكسر اقتصارًا عليه من ياء الإضافة، وقيل: إنها حذفت لالتقاء الساكنين كما قيل ذلك في الألف، ونداؤه بالتصغير من باب التحنن والرأفة، وكثيرًا ما ينادي الوالد ولده كذلك: {اركب مَّعَنَا} أي في السفينة ولتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع إغناء المعية عن ذكرها لم تذكر، وأطلق الركوب وتخفيف الباء وإدغامها في الميم قراءتان سبعيتان ووجه الإدغام التقارب في المخرج: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} تأكيد للأمر وهو نهي عن مشايعة الكفرة والدخول في غمارهم، وقطع بأن الدخول فيه يوجب الغرق على الطريق البرهاني.
{قَالَ} أي سأنضم: {سَآوِى إلى جَبَلٍ} من الجبال، وقيل: عنى طور زيتا: {يَعْصِمُنِى} أي يحفظني بارتفاعه: {مِنَ الماء} فلا يصل إلي.
قال ذلك زعمًا منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى مرتفع، وجهلًا منه بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة فلابد أن يدركهم ولو كانوا في قلل الجبال: {قَالَ} مبينًا له حقيقة الحال وصارفًا له عن ذلك الفكر المحال: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} نفي لجنس العاصم المنتظم لنفي جميع أفراده ذاتًا وصفة للمبالغة في نفي كون الجبل عاصمًا، وزاد: {اليوم} للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية، وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر الله أي عذابه الذي أشير إليه أولًا بقوله سبحانه: {حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا} [هود: 40] تفخيمًا لشأنه وتهويلًا لأمره وتنبيهًا لابنه على خطئه في تسميته ماءًا وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة، وتعليلًا للنفي المذكور فإن أمر الله سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد، وتمهيدًا لحصر العصمة في جناب الله تعالى عز جاره بالاستثناء كأنه قيل: لا عاصم من أمر الله تعالى إلا هو تعالى، وإنما قيل: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} تفخيمًا لشأنه الجليل جل شأنه وإشعارًا بعلية رحمته بموجب سبقها غضبه كل ذلك لكمال عنايته عليه السلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرف عنانه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئًا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه، ولذا عدل عما يقتضيه الظاهر من الجواب بقوله: لا يعصمك الجبل منه كذا ذكره بعض المحققين وهو أحد أوجه في الآية وأقواها.
والوجه الثاني: أن عاصمًا صيغة نسبة، والمراد بالموصول المرحوم أي لا ذا عصمة أي معصوم إلا من رحمه الله تعالى، وأيد ذلك بأنه قرئ: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} بالبناء للمفعول، واعترضه في الكشف بأن فاعلًا بمعنى النسبة قليل، وأجيب بأنه إن أراد قلته في نفسه فممنوع وإن بالنسبة إلى الوصف فلا يضر.
والثالث: أن عاصمًا على ظاهره، و: {مَن رَّحِمَ} بمعنى المرحوم والاستثناء منقطع لا متصل كما في الوجهين الأولين أي لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله تعالى فهو معصوم، وأورد عليه بأن مثل هذا المنقطع قليل لأنه في الحقيقة جملة منقطعة تخالف الأولى لا في النفي والإثبات فقط بل في الاسمية والفعلية أيضًا، والأكثر فيه مثل ما جاءني القوم إلا حمارًا، والرابع: أن عاصمًا بمعنى معصوم كدافق بمعنى مدفوق وفاتن بمعنى مفتون في قوله:
بطيء القيام رخيم الكلا ** م أمسى فؤادي به (فاتنا)

{وَمِن رَّحْمَتِهِ} بمعنى الراحم، والاستثناء منقطع أيضًا أي لا معصوم إلا الراحم على معنى لكن الراحم يعصم من أراد، والخامس: أن الكلام على إضمار المكان والاستثناء متصل أي لا عاصم إلا مكان من رحمه الله من المؤمنين وهو السفينة، قيل: وهو وجه حسن فيه مقابلة لقوله: {يَعْصِمُنِى} وهو المرجح بعد الأول، والعاصم على هذا حقيقة لكن إسناده إلى المكان مجازي، وقيل: إنه مجاز مرسل عن مكان الاعتصام، والمعنى لا مكان اعتصام إلا مكان من رحمه الله، وادعى أنه أرجح من الكل لأنه ورد جوابًا عن قوله: {سَاوِى إلى جَبَلٍ} إلخ وليس بمسلم، والسادس: ما أبداه صاحب الكشف من عنده وهو أن المعنى لا معصوم إلا مكان من رحمه الله تعالى، ويراد به عصمة من فيه على الكناية فإن السفينة إذا عصمت عصم من فيها، والسابع: أن الاستثناء مفرغ، والمعنى لا عاصم اليوم أحدًا أو لأحد إلا من رحمه الله أو لمن رحمه الله سبحانه، وعده بعضهم أقربها، ولا أظنك تعدل بالوجه الأول وجهًا وهو الذي اختاره، والظاهر على ما قال أبو حيان: أن خبر لا محذوف للعلم به أي: {لاَ عَاصِمَ} موجود، والأكثر الحذف في مثل ذلك عند الحجازيين، والتزم الحذف فيه بنو تميم ويكون اليوم منصوبًا على إضماره فعل يدل عليه: {عَاصِمَ} أي: {لاَ عَاصِمَ} يعصم اليوم؛ والجار والمجرور متعلق بذلك الفعل ومنع جواز أن يكون: {اليوم} منصوبًا باسم لا وأن يكون الجار متعلقًا به لأنه يلزم حينئذٍ أن يكون معربًا منونًا للطول.
وجوز الحوفي أن يكون: {اليوم} متعلقًا بمحذوف وقع خبرًا للا والجار متعلق بذلك المحذوف أيضًا، وأن يكون متعلقًا بمحذوف هو الخبر، و: {اليوم} في موضع النعت لعاصم، ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبرًا للا والجار متعلق بذلك المحذوف أيضًا، وأن يكون متعلقًا بمحذوف هو الخبر، و: {اليوم} في موضع النعت لعاصم، ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبرًا عن الجثة، والتزم كونه معمول من أمر الله وكون الخبر هو الجار والمجرور، ورد أبو حيان جواز النعتية بأن ظرف الزمان لا يكون نعتًا للجثث كما لا يكون خبرًا عنها: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج} أي بين نوح عليه السلام وابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة، قيل: كانا يتراجعان الكلام فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكبًا على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه، وليس في الآية هنا إلا إثبات الحياة له، وأما علمه عليه السلام بغرقه فلم يحصل إلا بعد، وقال الفراء: بينهما أي بين ابن نوح عليه السلام والجبل.
وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن القاسم بن أبي بزة، وتعقبه العلامة أبو السعود بأن قوله تعالى: {فَكَانَ مِنَ المغرقين} إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه السلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل لأنه بمعزل عن كونه عاصمًا وإن لم يحل بينه وبين الملتجأ إليه موج، وأجيب بأن التفريع لا ينافي ذلك لأن المراد فكان من غير مهلة أو هو بناءً على ظنه أن الماء لا يصل إليه، وفي الآية دلالة على غرق ساء الكفرة على أبلغ وجه، فكأن ذلك أمر مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان، وفي إيراد كان دون صار مبالغة في كونه منهم. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [41].
{وَقَالَ} أي: نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين: {ارْكَبُواْ فِيهَا} أي: السفينة: {بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}. قال الزمخشري: يجوز أن يكون كلامًا واحدًا وكلامين، فالكلام الواحد أن يتصل (بسم الله) بـ (اركبوا) حالًا من الواو، بمعنى: ركبوا فيها مسمين الله، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها، ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران، كالإجراء والإرسال، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم: (خفوق النجم) و(مقدم الحاج) ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء وانتصابهما، بما في (بسم الله) من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول.
والكلامان: أن يكون: {بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة، أي: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، يروى أنه كان إذا كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسوا قال: بسم الله، فرست. وجوز أن يقحم الاسم كقوله:
ثم اسم السلام عليكما

ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أي: بقدرته وأمره. ومعنى قولنا: (جملة مقتضبة) أن نوحًا عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن يكون غير مقتضبة، بأن تكون في موضع الحال من ضمير (الفلك) كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله، بمعنى التقدير، كقوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: من الآية 73] انتهى.
تنبيهات:
الأول: قرأ الإخوان- حمزة والكسائي وحفص- {مَجْرَاهَا} بفتح الميم، والباقون بضمها. واتفق السبعة على ضم ميم {مرساها}. وقد قرأ ابن مسعود والثقفي {مَرْسَاهَا} بفتح الميم أيضًا. وقرئ بضم الميم وكسر الراء والسين وياء بعدهما، بلفظ اسم الفاعل، مجروري المحل، صفتين لله.
الثاني: ما وقع بعد الراء من الألفات المنقلبة عن الياء التي للتأنيث، أو للإلحاق، أمَالهُ حمزة والكسائي وأبو عَمْرو، ووافقهم حفص في إمالة {مَجْرَاهَا} هنا، ولم يُملْ غيره.
الثالث: أخذ بعضهم من الوجه الأول في: {بِسْم اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} أعني تقدير قائلين، استحباب التسمية، وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء، وهو مؤيد بقول تعالى في سورة المؤمنون: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 28- 29]، وقوله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 12- 13] الآية، وجاءت السنة بالحث على ذلك، والندب إليه أيضًا.
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} جملة مستأنفة، بيان للموجب للإنجاء، أي: لولا مغفرته ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم، أو تعليل لـ {اركبوا} لما فيه من الإشارة إلى النجاة، فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله.
وقوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} متصل بمحذوف دل عليه {اركبوا}، أي: فاركبوا مسمين وهي تجري، وهم فيها: {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} وذلك أنه لما تفتحت أبواب السماء بالماء، وتفجرت ينابيع الأرض تعاظمت المياه، وعلت أكناف الأرض، وارتفعت فوق الجبال الشامخة بخمسة عشر ذراعًا، وكان ما يرتفع من الماء عند اضطرابه من أمواجه كالجبال.
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} أي: في متنحى عن أبيه: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا} أي: ادخل في ديننا، واصحبنا في السفينة: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} أي: في الدين والانعزال، الهالكين.
{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء} أي: فلا أغرق: {قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ} أي: لا مانع اليوم من بلائه، وهو الطوفان، إلا الراحم وهو الله تعالى. أو لا عاصم إلا مكان من رحم، وهم المؤمنون، يعني السفينة. أو لا عاصم، بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحمه الله. أو (إلا) منقطعة، أي: لكن من رحمه فهو المعصوم.
قال الناصر: الاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم، ولا معصوم إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والآخران من غير الجنس. أي: فيكون منقطعًا. أي: لكن المرحوم يعصم على الأول، ولكن الراحم يعصم من أراد على الثاني.
وزاد الزمخشري خامسًا وهو: لا عاصم إلا مرحوم، على أنه من الجنس، بتأويل حذف المضاف، تقديره: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم، والمراد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل، وبالمثبت التعريض بعصمة السفينة، والكل جائز، وبعضها أقرب من بعض- انتهى-.
{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} أي: صار حائلًا بين نوح وابنه، أو بين ابنه والجبل، لارتفاعه فوفه: {فَكَانَ} أي: ابنه مع كونه فوق الجبل: {مِنَ الْمُغْرَقِينَ} أي: الهالكين بالغرق.
وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه، فكان ذلك أمرًا مقرر الوقوع، غير مفتقر إلى البيان. وفي إيراد (كان) دون (صار) مبالغة في كونه منهم- أفاده أبو السعود-. اهـ.